فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني:

وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث:
منها ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابيّ فقال: يا نبيّ الله إن لي أخًا وبه وجع فقال: «وما وجعه؟» قال: به لمم، قال: «فائتني به، فوضعه بين يديه، فعوّذه النبيّ بفاتحة الكتاب وأربع آيات ومن أوّل سورة البقرة، وهاتين الآيتين {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163] وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18]، وآية من الأعراف {إِنَّ رَبَّكُمُ الله} [الأعراف: 54]، وآخر سورة المؤمنين {فتعالى الله الملك الحق} [المؤمنون: 116- 118]، وآية من سورة الجنّ {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} [الجن: 3]، وعشر آيات من أوّل الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، و{قل هو الله أحد} [الأخلاص: 1] والمعوّذتين، فقام الرجل كأنه لم يشتك قطّ».
وأخرج نحوه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن أبيّ مثله.
وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال: من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة وآية الكرسي وآيتين بعد آية الكرسي وثلاثًا من آخر سورة البقرة، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله، ولا تقرأ على مجنون إلا أفاق.
وأخرج الدارميّ وابن المنذر والطبراني عنه قال: «من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح أربع من أوّلها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث خواتمها أوّلها متصل {للَّهِ مَا في السموات}» [البقرة: 284].
وأخرج سعيد بن منصور، والدارمي، والبيهقي عن المغيرة بن سبيع، وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه.
وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة» وقد ورد في ذلك غير هذا. اهـ.

.من لطائف قوله تعالى: {وأؤلئك هم المفلحون}:

قال ابن إسحاق أي الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا.
وأصل الفلاح في اللغة البقاء وقيل للمؤمن مفلح لبقائه في الجنة.
وقال عبيد: أفلح بما شئت فقد يدرك بالضعف وقد يخدع الأريب أي ابق بما شئت من كيس وحمق ثم اتسع في ذلك حتى قيل لكل من نال شيئا من الخير مفلح. انتهى.
وقال السعدي: {أولئك} أي الموصوفون بتلك الصفات الحميدة {على هدى من ربهم} أي على هدي عظيم لأن التنكير للتعظيم وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيد الصحيحة والأعمال المستقيمة وهل الهداية في الحقيقة إلا هدايتهم وما سواها مما خالفها فهي ضلالة.
وآتى ب {على} في هذا الموضع الدالة على الاستعلاء وفي الضلالة يأتي ب {في} كما في قوله: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] لأن صاحب الهدي مستعل بالهدي مرتفع به وصاحب الضلالة منغمس فيها محتقر.
ثم قال: {أولئك هم المفلحون} والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المهروب وحصر الفلاح فيهم لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم. اهـ.

.قال في الميزان:

وقد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدل ذلك على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه وتعالى، فهم إنما صاروا متقين أولى هذه الصفات بهداية منه تعالى ثم وصف الكتاب بأنه هدي لهؤلاء المتقين بقوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} فعلمنا بذلك: أن الهداية غير الهداية، وأن هؤلاء وهم متقون محفوفون بهدايتين هداية أول: صاروا متقين، وهداية ثانية أكرمهم الله سبحانه وتعالى بها بعد التقوى وبذلك صحت المقابلة بين المتقين وبين الكفار والمنافقين، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين ضلال أول هو الموجب لأوصفاهم الخبيثة من الكفر والنفاق وضلال ثان يتأكد به ضلالهم الأول ويتصفون به بعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالى في حق الكفار: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة: 7] فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى أنفسهم وكما يقول في حق المنافقين: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا} [البقرة: 10] فنسب المرض الأول إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى: {يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] وقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] وبالجملة المتقون واقعون بين هدايتين كما أن الكفار والمنافقين واقعون بين ضلالين.
ثم إن الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الأولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هَاهُنَا إِشَارَتَانِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَكَرَّرَ الْإِشَارَةَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ لابد مِنْ تَحَقُّقِ الْوَصْفَيْنِ لِتَحَقُّقِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ تَنْكِيرَ {هُدًى} هُنَا لِلتَّعْظِيمِ. وَشَيْخُنَا قَدْ جَعَلَ الْإِشَارَتَيْنِ لِنَوْعَيِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأُسْلُوبِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ.
قَالَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ الْأُولَى:
قَالَ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْفِرْقَةِ الْأُولَى: وَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الْحَقَّ، لِأَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ- كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ {هُدًى} الدَّالُّ عَلَى النَّوْعِ- وَيَنْتَظِرُونَ بَيَانًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لِيَأْخُذُوا بِهِ، وَلِذَلِكَ تَقَبَّلُوهُ عِنْدَمَا جَاءَهُمْ، فَقَدْ أَشْعَرَ اللهُ قُلُوبَهُمُ الْهِدَايَةَ بِمَا آمَنُوا بِهِ مِنَ الْغَيْبِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي سَبَقَ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ.
وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَعَلَى هُدًى تُشْرَكُ فِيهِ تِلْكَ الْفِرْقَةُ الْأَوْلَى، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ؛ لِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ بِالْقُرْآنِ وَعَامِلَةٌ بِهِ، وَقوله: {عَلَى هُدًى} تَعْبِيرٌ يُفِيدُ التَّمَكُّنَ مِنَ الشَّيْءِ كَتَمَكُّنِ الْمُسْتَقِرِّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: رَكِبَ هَوَاهُ ولَقَدْ كَانَ أَفْرَادُ تِلْكَ الْفِرْقَةِ أَيِ الْأُولَى عَلَى بَصِيرَةٍ وَتَمَكُّنٍ مِنْ نَوْعِ الْهُدَى الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا غَيْرَ كَافٍ لِإِسْعَادِهِمْ وَفَلَاحِهِمْ، فَهُوَ كَافٍ لِإِعْدَادِهِمْ وَتَأْهِيلِهِمْ لَهُمَا بِالْإِيمَانِ التَّفْصِيلِيِّ الْمُنَزَّلِ، وَلِذَلِكَ قَبِلُوهُ عِنْدَمَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ.
وَإِلَى الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ الثَّانِيَةُ:
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَهُمُ الْمُفْلِحُونَ بِالْفِعْلِ لِاتِّصَافِهِمْ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالْقُرْآنِ، وَبِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْيَقِينِ بِالْآخِرَةِ- لَا مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ إِجْمَالًا- وَيُرْشِدُ إِلَى التَّغَايُرِ بَيْنِ مَرْجِعِ الْإِشَارَتَيْنِ تَرْكُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ {هُمْ} فِي الْأُولَى وَذِكْرُهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدًا لَذَكَرَ الْفَصْلَ فِي الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الْهُدَى الصَّحِيحِ التَّامِّ، فَهُوَ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ سِوَاهُمْ، لَكِنَّهُ اكْتَفَى عَنِ التَّنْصِيصِ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهُدَى بِحَصْرِ الْفَلَاحِ فِيهِمْ، وَمَادَّةُ الْفَلْحِ تُفِيدُ فِي الْأَصْلِ مَعْنَى الشَّقِّ وَالْقَطْعِ، وَمِثْلُهَا مَادَّةُ الْفَلْجِ بِالْجِيمِ وَالْفَلْخِ بِالْخَاءِ وَالْفَلْذِ وَالْفَلْعِ وَالْفَلْغِ وَالْفَلْقِ والْفَلِّ وَالْفَلْمِ، وَيُطْلَقُ الْفَلَاحُ وَالْفَلْجُ عَلَى الْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ: أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِذَا فَازَ بِمَرْغُوبِهِ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مُعَانَاةٍ، بَلْ لابد فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ مِنَ السَّعْيِ إِلَى الرَّغِيبَةِ وَالِاجْتِهَادِ لِإِدْرَاكِهَا، فَهَؤُلَاءِ مَا كَانُوا مُفْلِحِينَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ، وَبِاتِّبَاعِ هَذَا الْإِيمَانِ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي الَّتِي نِيطَ بِهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْيَقِينِ بِالْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَيُدْخَلُ فِي هَذَا كُلِّهِ تَرْكُ الْكَذِبِ وَالزُّورِ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنْ سَائِرِ الرَّذَائِلِ كَالشَّرِّ وَالطَّمَعِ وَالْجُبْنِ وَالْهَلَعِ وَالْبُخْلِ وَالْجَوْرِ وَالْقَسْوَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالِانْغِمَاسِ فِي ضُرُوبِ اللَّذَّاتِ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْفَضَائِلُ الَّتِي هِيَ أَضْدَادُ هَذِهِ الرَّذَائِلِ الْمَتْرُوكَةِ، وَجَمِيعُ مَا سَمَّاهُ الْقُرْآنُ عَمَلًا صَالِحًا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ وَالسَّعْيُ فِي تَوْفِيرِ مَنَافِعِهِمُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مَعَ الْتِزَامِ الْعَدْلِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ مَا حَدَّهُ الشَّرْعُ الْقَوِيمُ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ.
وجملة الْقَوْلِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هُوَ الْإِيمَانُ بِالدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَمَا عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مُخَالِفٌ يُعْتَدُّ بِهِ، فَلَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، فَالْإِيمَانُ بِهِ إِيمَانٌ، وَالْإِسْلَامُ لِلَّهِ بِهِ إِسْلَامٌ، وَإِنْكَارُهُ خُرُوجٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْقِدَ الِارْتِبَاطِ الْإِسْلَامِيِّ وَوَاسِطَةَ الْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الثُّبُوتِ وَدَرَجَةِ الْعِلْمِ فَمَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَثَارَ اخْتِلَافٍ فِي الدِّينِ. زَادَ الْأُسْتَاذُ هُنَا بِخَطِّهِ عِنْدَ قَوْلِنَا: اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ مَا نَصَّهُ:
أَوْ ذَوْقِ الْعَارِفِينَ أَوْ ثِقَةِ النَّاقِلِينَ بِمَنْ نَقَلُوا عَنْهُ لِيَكُونَ مُعْتَمَدَهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ بَعْدَ التَّحَرِّي وَالتَّمْحِيصِ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُلْزِمُوا غَيْرَهُمْ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ ثِقَةَ النَّاقِلِ بِمَنْ يَنْقُلُ عَنْهُ حَالَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ لَا يُمْكِنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْعُرَ بِهَا حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَعَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي الْحَالِ مِثْلُ مَا لِلنَّاقِلِ مَعَهُ، فَلابد أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَحْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَدَخَائِلِ نَفْسِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ، وَتَحْصُلُ الثِّقَةُ لِلنَّفْسِ بِمَا يَقُولُ الْقَائِلُ.
وَأَقُولُ: مَعْنَى هَذَا أَنَّ بَعْضَ أَحَادِيثِ الْآحَادِ تَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِهَا، وَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَكْتُبُونَ جَمِيعَ مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا مَعَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُتَّبَعَةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ بَيَانِ السُّنَّةِ، كَصَحِيفَةِ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ- الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ: كَالدِّيَةِ، وَفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَتَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ كَمَكَّةَ، وَلَمْ يَرْضَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مِنَ الْخَلِيفَتَيْنِ: الْمَنْصُورِ، وَالرَّشِيدِ أَنْ يَحْمِلَا النَّاسَ عَلَى الْعَمَلِ بِكُتُبِهِ حَتَّى الْمُوَطَّأِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ عَلَى مَنْ وَثِقَ بِهَا: رِوَايَةً، وَدَلَالَةً، وَعَلَى مَنْ وَثِقَ بِرِوَايَةِ أَحَدٍ وَفَهْمِهِ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَنْ يَأْخُذَهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ تَشْرِيعًا عَامًّا، وَأَمَّا ذَوْقُ الْعَارِفِينَ، فَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الدِّينِ، وَلَا يُعَدُّ حُجَّةً شَرْعِيَّةً بِالْإِجْمَاعِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ فِي الشُّبَهَاتِ، وَالِاحْتِيَاطِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} قوله تعالى: {أولئك} اشارة إلى الذين تنطبق عليهم كل الصفات التي يبينها الله سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين، فأولئك الذين تنطبق عليهم هذه الصفات وصلوا إلى الهدى أي إلى الطريق الموصل للإيمان، ووصلوا إلى الفلاح، وهو الهدف من الإيمان.
وقوله تعالى: {أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تشمل الجميع.
ولكن لماذا استخدم الله تبارك وتعالى: {أُوْلَائِكَ} مرتين؟ تلك من بلاغة القرآن الكريم، ولماذا دمج الخبرين بعضهما مع بعض؟ حتى نعرف أنه ليس في الاسلام إيمانان بل إيمان واحد يترتب عليه جزاء واحد، وسيلته الهدى، وغايته الفلاح، ولو نظر إلى التكليفات التي هي الهدى الموصلة إلى الغاية نجد أن الله سبحانه وتعالى رفع المهتدي على الهدى، لنعرف أن الهدى لم يأت ليقيد حركتك في الحياة ويستذلك، وإنما جاء ليرفعك.
إن السطحيّين يعتقدون أن الهدى يقيد حركة الانسان في الحياة ويمنعه من تحقيق شهواته العاجلة، ولكن الهدى في الحقيقة يرفع الانسان ويحفظه من الضرر، ومن غضب الله، ومن افساد المجتمع الذي سيكون هو أول من يعاني منه، لذلك قال تبارك وتعالى: {عَلَى هُدًى}.
وعلى تفيد الاستعلاء. فإذا قلت أنت على الجواد فإنك تعلوه، كأن المهتدى حين يلزم نفسه بالمنهج لا يذل، ولكنه يرتفع إلى الهدى ويصبح الهدى يأخذه من خير إلى خير، وذلك بعكس الضلالة التي تأخذ الانسان إلى أسفل، ولذلك حين تقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] ترى ما يفيد الارتفاع والعلو في الهداية، وما يفيد الانخفاض والنزول في الضلالة؛ وإنما كان العلوّ في الهدى، لأن المنهج قَيَّدَ حركة حياتك اعزازا لك لعلوك وسمو مقامك في أنك لا تأخذ من بشر تشريعا، ولا تأخذ من ذاتك حركة، وإنما يرتفع بك لتتلقي عن الله سبحانه وتعالى، وهذا علو كبير، ولكن عند الضلالة قال: {في ضلال}. وفي تدل على الظرفية المحيطة.. وهو كما وصفه الله سبحانه وتعالى في آية أخرى بقوله جل جلاله: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] أحاطت به الخطيئة.. أي لا يستطيع أن يفلت منها لأنه مظروف في الضلال.. وما دامت الخطيئة محيطة به فلا يجد منفذا لأنها تحكمه.. وما دامت تحكمه فلا يمكن أن يصل إلى هدى مطلقا.. فالحق سبحانه وتعالى حينما قال: {أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. اختار لفظا عليه دلالة دنيوية تقرب المعنى إلى السامع.
ما هو الفلاح؟ المعنى العام هو الفوز والْمُفْلِحُ هو الفائز. ومعنى الآية الكريمة أولئك هم الفائزون وقال: {هم المفلحون}.
لأن الفلاح مأخوذ من شق الأرض للبذر.. ومنه سُمِّيَ الفلاح الذي صفته شق الأرض ورمي البذور فيها.
والحق سبحانه تعالى جاء بهذا اللفظ بالنسبة للآخرة لآنه يريد أن يأتي لنا مع الشيء بدليله.. وهناك فرق بين أمر غيبي عنا لا نعرفه.. وأمر غيبي يستدل عليه بمشهود.
فالدين يقيد حريتك في الحياة في أن تفعل ولا تفعل.. ومنهج الله جاء ليقول لك إفعل كذا ولا تفعل كذا. وكثير من الناس يظن أن ذلك تقييد لحركة حياة المؤمن واثقال عليه.. لأنه أخذ منه حرية حركته فقيدها.
إن الله تبارك وتعالى حين يقول لك لا تفعل.. معناها عند السطحيين أنه ضيق عليك ما تريد أن تفعل.. وحين يقول لك افعل.. معناها يكون قد ضيق عليك في شيء لا تريد أن تفعله. فمثلا: حين يطلب منك الزكاة.. فالزكاة في ظاهرها نقص المال، وإن كانت في حقيقتها بركة ونماء.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه».
فالحق سبحانه وتعالى إذا قيد حركتك في الحياة.. لا تظن أن هذا تضييق عليك.. بل أن هذا لفائدتك.. لأنه لم يأمرك وحدك، ولكن الأمر للناس جميعا حين يقول جل جلاله: لا تسرق.. فقد قالها للناس جميعا ولذلك تكون أنت الرابح.. لأنه قيدك وأنت فرد من أن تسرق من غيرك.. ولكنه قيد ملايين الناس من أن يسرقوا منك.. اذن فالله لم يضيق عليك، ولكنه حمى مالك من الناس كل الناس.. قيدك وأنت فرد أن تسرق من مال غيرك، وقيد ملايين أن يسرقوا من مالك.. فمن الفائز؟ أنت طبعا.
وقوله تعالى: {وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {المفلحون} من مادة فلح.. فإذا كانت الأرض صماء فحينما نشقها ونبذرها تعطي محصولا عظيما، العملية أخذناها أبا عن جد. فالأرض حين تشق وتُبذر تُعطي محصولا وافرا.. وإذا كانت هذه العملية أخذت أبا عن جد.. يأتي السؤال من الذي علم آدم البذر والزرع؟ نقول علمه الله سبحانه وتعالى كما علمه الأسماء.. وكما علمه ما يمكنه به أن يباشر مهمته في الأرض.
والحق جل جلاله لم يكن يترك آدم في حياته على الأرض دون أن يعلمه ما يضمن استمرار حياته وحياة أولاده.. يعلمه على الأقل بدايات.. ثم بعد ذلك تتطور هذه البدايات بما يكشفه الله من علمه لخلقه.. وبعد ذلك جاءت القرون المتقدمة فاستطعنا أن نستخدم آلات حديثة متطورة تقوم بعملية الحرث والبذر.
ولكن الحقيقة الثابتة التي لم تتغير منذ بداية الكون ولن تتغير حتى نهايته.. هي أن مهمة الانسان أن يحرث ويضع البذرة في الأرض ويسقيها.. أما نمو الزرع نفسه فلا دخل للانسان فيه.
وكذلك الثمر الذي ينتجه لا عمل للإنسان فيه.
ولقد نبهنا الله تبارك وتعالى إلى هذه الحقيقة حتى لا نغتر بحركتنا في الحياة ونقول إننا نحن الذين نزرع.. واقرأ قول الحق جل جلاله في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 63- 67] وهكذا ظلت مهمة الفلاحة في الأرض مقتصرة على الحرث والسقي والبذر، وحينما تلقى الحبة في الأرض يخلق الله في داخلها الغذاء الذي يكفيها حتى تستطيع أن تأخذ غذاءها من الأرض.. وإذا جئت بحبة وبللتها تجد أنها قد نبت لها ساق وجذور.. من أين جاء هذا النمو؟ من تكوين الحبة نفسه، والله تبارك وتعالى قد قدر في كل حبة من الغذاء ما يكفيها حتى تستطيع أن تتغذى من الأرض.. وعلى قدر كمية الغذاء المطلوبة يكون حجم الحبة.. وحين تضعها في الأرض فإنها تبدأ أولا بأن تغذي نفسها.. بحيث ينبت لها ساق وجذور وورقتان تتنفس منهما.. كل هذا لا دخل لك فيه ولا عمل لك فيه.. وتبدأ الحبة تأخذ غذاءها من الأرض والهواء.. لتنمو حتى تصبح شجرة كبيرة تنتج الثمر من نوع البذرة نفسه.
ومن هنا جاءت كلمة {المفلحون}. ليعطينا الحق جل جلاله من الأمور المادية المشهودة ما يعين عقولنا المحدودة على فهم الغيب.. فيشبه التكليف وجزاءه في الآخرة بالبذور والفلاحة.. أولا لأنك حين ترمي بذرة في الأرض تعطيك بذورا كثيرة.
واقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
وإذا كانت الأرض وهي المخلوقة من الله تهبك أضعاف أضعاف ما أعطيتها.. فكيف بالخالق؟ وكم يضاعف لك من الثواب في الطاعة؟ هذا هو السبب في أن الحق تبارك وتعالى يقول: {وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. حتى يلفتنا بمادة الفلاحة.. وهي شيء موجود نراه ونشهده كل يوم.
وكما أن التكليف يأخذ منك أشياء ليضاعفها لك.. كذلك الأرض أخذت منك حبة ولم تعطك مثل ما أخذت، بل أعطتك بالحبة سبعمائة حبة.. وهكذا نستطيع أن نصل بشيء مشهود يُفَصِّلُ لنا شيئا غيبيا. اهـ.